العدالة الانتقالية كشرط تأسيسي للقانون: في استحالة مكافحة الفساد ضمن بنية قانونية مستلبة
تمهيد
في سياقات الانتقال السياسي، تبرز شعارات تفعيل القانون، وملاحقة الفاسدين، وضبط أداء الحكومات الانتقالية، كأولويات مرحلية. غير أن هذا الخطاب، على الرغم من وجاهته الظاهرية، يُخفي مفارقة بنيوية حادّة: لا يمكن استدعاء القانون أو مساءلة الفساد، في ظل غياب عدالة انتقالية شاملة تؤسس لإعادة بناء الشرعية القانونية من جذورها.
1. العدالة الانتقالية: من آلية قضائية إلى وظيفة تأسيسية
تُعرَّف العدالة الانتقالية، وفق تقارير "المفوضية السامية لحقوق الإنسان"، بأنها منظومة من التدابير القضائية وغير القضائية (الملاحقات، لجان الحقيقة، جبر الضرر، إصلاح المؤسسات)، تُعتمد حين ينتقل مجتمع من حكم استبدادي أو صراع مسلح إلى نمط حكم ديمقراطي. إلا أن حصرها في آليات إجرائية يُفرغها من طابعها المؤسِّس: فهي ليست مجرّد أدوات للمعالجة، بل ركيزة لإعادة إنتاج معنى القانون ذاته.
حنة أرندت، في كتابها "في الثورة" (On Revolution)، ميّزت بين "الشرعية" و"القانونية"، مؤكدة أن القانون الذي لا ينبثق من حدث تأسيسي، من لحظة انقطاع جذري مع البنية القديمة، يظل قانونًا بلا جذور، ومؤهّلًا لإعادة إنتاج الاستبداد. من هذا المنظور، لا تكون العدالة الانتقالية تابعة لمنظومة قانونية سابقة، بل هي ما يؤسّس لإمكان وجود قانون جديد أصلًا.
2. طمس العدالة الانتقالية واستلاب القانون
عندما يتم تجاوز العدالة الانتقالية، أو استبدالها بإجراءات شكلية تخلو من المساءلة الفعلية والاعتراف بالضحايا، يُفرَغ القانون من محتواه التأسيسي ويتحوّل إلى أداة شكلانية لإعادة إنتاج العلاقات القديمة. جاك رانسيير يتحدث عن هذا في سياق "توزيع الحساسيات" (Distribution of the Sensible)، مشيرًا إلى أن القانون في الأنظمة غير الديمقراطية لا يُعاد تشكيله، بل يُعاد توزيعه لخدمة التوازنات الجديدة.
إن الاستلاب القانوني هنا لا يعني فقط تغييب العدالة، بل تحويل القانون إلى جهاز تبريري جديد، لا يتأسس على الذاكرة، ولا يضمن المحاسبة، ولا يلتزم بإعادة بناء المؤسسات على أسس أخلاقية وتاريخية. وهكذا، تصبح فكرة "دولة القانون" مجرّد قشرة إجرائية، فاقدة لأي شرعية فعلية.
3. استحالة مكافحة الفساد خارج البنية التأسيسية
في الأدبيات السوسيولوجية، يُفهم الفساد – لا سيما في الدول الخارجة من نزاع – كمنظومة معقدة من التبادلات الزبائنية والمحسوبية، وليس كأفعال فردية منعزلة. يورغن هابرماس، في كتابه "الحق والعدالة"، يشير إلى أن الفساد في مثل هذه السياقات يُعدّ أحد أعطاب المجال العمومي نفسه، الذي لم يُسترد بعد، لا من حيث المشاركة ولا من حيث الشفافية.
إن الدعوة إلى مكافحة الفساد في ظل غياب عدالة انتقالية تعني – فعليًا – محاربة أعراض لبنية لم تُفكك. فبدون كشف الحقيقة، ومحاسبة رموز النظام السابق، وإصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية، لا يمكن تصور جهاز رقابي نزيه أو مساءلة حقيقية، لأن الأدوات ذاتها تكون ملوّثة بمنطق السيطرة القديمة.
في هذا السياق، تصبح الدعوات إلى مكافحة الفساد، كما أظهر نموذج تونس بعد الثورة، محصورة ضمن منطق انتقائي، أو مستغلة سياسيًا، لأن العدالة الانتقالية لم تُستكمل، ولأن ملفات الانتهاك الكبرى أُغلقت قبل الوصول إلى تفكيك البنية السلطوية فعليًا.
4. العدالة، القانون، والذاكرة: علاقة تأسيسية لا تقنية
تؤكد نانسي فرايزر، في تنظيرها حول "العدالة الموزّعة"، على أن العدالة لا تكتمل ما لم تُقرن بإعادة توزيع السلطة والاعتراف، وليس فقط تطبيق الإجراءات. أي أن أي قانون لا ينبني على ذاكرة جمعية، ولا يعترف بالضحايا، ولا يسعى لجبر الضرر، يظل قانونًا تقنيًا، قابلًا للانقلاب عليه من الداخل.
العدالة الانتقالية، بهذا المعنى، هي ليست فقط ممرًا نحو المستقبل، بل شرطًا لتسمية هذا المستقبل قانونيًا. وإذا لم تتحقق، فإن القانون ذاته يُنتزع من موضعه الأخلاقي والتاريخي، ويتحوّل إلى شيفرة مؤسساتية لا تُحاسب ولا تُؤسِّس، بل تبرّر وتُدير.
خاتمة:
من دون عدالة انتقالية، لا يمكن الحديث عن قانون حقيقي. ومن دون قانون حقيقي، لا معنى لمساءلة الفساد أو مراقبة الحكومات الانتقالية، لأن الإطار ذاته يكون مستلبًا. إن من يطالبون بالقانون في غياب العدالة، إنما يطالبون بصورة للقانون بلا مضمون، وبسلطة بلا شرعية، وبمساءلة دون ذاكرة.
إذن، فالعدالة ليست مرحلة، بل أساس، والقانون ليس وسيلة، بل غاية تؤسَّس عبر الاعتراف والمساءلة. وما لم يحصل ذلك، فإن الفساد لا يُكافَح، بل يُعاد إنتاجه تحت مسميات جديدة.