حين دوّى التفجير الأخير في كنيسة مار إلياس بدمشق، لم يكن مجرد حدثٍ أمني معزول، ولم يكن فعلًا عبثيًا أتى من هوامش العالم السفلي الجهادي، بل بدا ـ لمن يقرأ الجغرافيا السياسية جيدًا ـ وكأنه فصل آخر من مسرحية طويلة يُعاد فيها إنتاج الرعب كآلية حكم. ففي الشرق الأوسط، وتحديدًا في المساحات التي ينهار فيها العقد الاجتماعي ويتصدع فيها البناء الوطني، يصبح العنف ـ أو التلويح به ـ الطريقة الأنجع لإنتاج السلطة وليس تهديدها.
وفي الحالة السورية، حيث تتحلل الدولة التقليدية ولا تولد دولة بديلة، يصبح وقعُ انفجارٍ في كنيسة مسيحية أعمق بكثير من عداد القتلى والجرحى. إنه رسالة مركبة تتجاوز الجهة المنفذة، وتمتد إلى الأطراف التي تستثمر في نتائج الانفجار أكثر من تنفيذه ذاته.
منذ سنوات، أصبح واضحًا أن التنظيمات الجهادية السلفية، وعلى رأسها "داعش"، ليست دائمًا فاعلًا حرًا مستقلًا، بل أداة وظيفية في صراع بين دول، تتقاطع فيه أجهزة المخابرات مع الجماعات الدينية، وتتواطأ فيه السرديات الكبرى مع الحسابات التكتيكية. هذا لا يعني بالضرورة أن كل انتحاري تقف خلفه دولة، بل يعني أن البيئة التي وُلد فيها، والطريق الذي أوصله إلى هدفه، والتوقيت الذي اختير له، كلها أمور تُفهم داخل منطق أوسع من مجرد التطرف الفردي أو العداء الديني.
وإذا كان الحديث عن استثمار الدول في العنف ليس جديدًا، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد رفعت هذا التكتيك إلى مستوى الاستراتيجية المتكاملة. منذ لحظة دخولها المسرح العربي بعد الثورة الخمينية، لم تكتفِ إيران ببناء شبكات ولاء مذهبية، بل حرصت على هندسة حضورها من خلال "الخطر المضاد"، أي من خلال تقوية خصمها السنّي المتطرف، أو على الأقل تسهيل صعوده، كي تبرر تدخلها بوصفها "حامية الأقليات" و"صاحبة اليد العليا في مكافحة الإرهاب".
من العراق إلى لبنان إلى سوريا، يتكرر النمط ذاته: تَصعد تنظيمات تكفيرية، تُحدث فوضى أمنية، ثم تأتي إيران ـ أو وكلاؤها ـ كقوة ضامنة للنظام والاستقرار. في العراق، كان هذا واضحًا بعد عام 2003 حين سُمح لتنظيمات مثل القاعدة أن تنشط في مناطق السنّة، في وقتٍ كانت إيران تبني فيه نفوذها من خلال ميليشيات شيعية تحوّلت لاحقًا إلى بنى موازية للدولة، بل وأقوى منها. كان اختراق أجهزة الدولة العراقية، خصوصًا الأمنية منها، فرصة لإيران لتوجيه الصراع الطائفي بما يخدم سرديتها: أن الشيعة في خطر، وأن الحماية لا تأتي من واشنطن، بل من طهران.
ولعلّ الحدث المفصلي الذي كشف هذه الاستراتيجية كان تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006، وهو التفجير الذي يُنسب للقاعدة، لكنه أدى إلى انفجار طائفي دمّر النسيج العراقي تمامًا. بين عشية وضحاها، تحوّل العراق إلى ساحة حرب أهلية، وباتت الميليشيات الشيعية تسيطر على الأحياء، وتوزّع الأمن والهوية والسلاح، بينما ظهرت إيران كقوة ترتيب وتهدئة، تفرض الحلول وتوزّع المواقع في النظام السياسي الجديد.
في لبنان، لم تكن السلفية المسلحة حاضرة بقوة، لكن حزب الله حرص على إبقاء "الخطر السنّي" حاضرًا في الخطاب، حتى لو لم يكن حاضرًا على الأرض. وهكذا، تحوّلت طرابلس وعرسال إلى رمزين دائمين للفوضى المذهبية، واستخدم الحزب هذا "الشبح السنّي" لتبرير سلاحه، ثم لتبرير تدخله في سوريا لاحقًا، تحت شعار "نقاتلهم هناك كي لا يأتوا إلينا".
أما في سوريا، فالقصة أكثر تعقيدًا وأكثر فظاعة في آن. لقد تحوّل "داعش" إلى وحش مثالي يخدم الجميع: يخوّف الغرب من المعارضة، ويخيف الأقليات من الثورة، ويخوّف السنة من الفوضى، ويمنح النظام السوري وإيران على حد سواء حق "التمدد الشرعي" باسم محاربة الإرهاب. لا يمكن فهم صعود "داعش" في الرقة ودير الزور وتدمر بمعزل عن ممارسات النظام، الذي أطلق سراح الجهاديين واعتقل المدنيين، وأعطى للتنظيم المجال ليتوسع على حساب المعارضة، لا على حساب الجيش النظامي. لقد كان "داعش" منذ البداية ـ كما وصفه بعض الباحثين الغربيين ـ بمثابة "وحش مدجّن"، مفترس في المظهر، لكن مُوجّه في العمق.
وإذا عدنا إلى التفجير الأخير في كنيسة مار إلياس، فإن السياق يصرخ بما هو أبلغ من البيان. التفجير يأتي في لحظة انتقال سياسي هشة، ما بعد نظام الأسد، أو على الأقل في طور إعادة تشكيل الحكم. استهداف المسيحيين، في هذه المرحلة تحديدًا، لا يبدو كضربة من تنظيم تكفيري يبحث عن مذبحة، بل كضربة تحمل رسالة مركبة: إفشال أي شعور بالأمان خارج معادلة الأسد – إيران – حزب الله، وتذكير الأقليات بأن من دون هذه "الحماية" لن يبقى شيء من وجودهم.
لا توجد دولة، على الأرجح، فهمت مثل إيران أهمية استخدام "الآخر" بوصفه أداة سياسية. فقد نجحت في تحويل الطائفة إلى رأسمال، والخوف إلى جهاز إنتاج شرعية. وحين تنفجر كنيسة، لا تكون الخسارة في الأرواح فقط، بل في عودة خطاب الدولة المخابراتية الذي يقول للناس: "من دوني، أنتم مشروع دم جديد".
إن أخطر ما في الإرهاب ليس فقط قدرته على القتل، بل قابليته لأن يُوظَّف، ويُهندَس، ويُستثمر فيه. وإذا كانت داعش قد قدّمت نفسها كتنظيم الموت باسم الإسلام، فإن النظام الإيراني قد قدّم نفسه كتنظيم الحياة باسم الخوف من داعش. وبهذا المعنى، يصبح التفجير ليس نهاية حياة، بل بداية مشهد سياسي جديد، يُعاد فيه إنتاج الحاجة إلى القبضة الأمنية، هذه المرة لا باسم "محاربة إسرائيل" كما في عقود ماضية، بل باسم "حماية الأقليات من التكفيريين"، ولو أن التكفيريين أنفسهم قد تسرّبوا ـ بطريقة ما ـ من نفس الأبواب التي حُرست ذات يوم بـ"الحرس الثوري".